شذى الجوهري – جنى بزي
يُعد الكاريكاتور من أهم الفنون التي تساهم بنقد الواقع وتعريته. فهو يعكس لغة بصرية سهلة تقوم على المبالغة والتلميح والإيحاء, وتمرر أهم الرسائل التي تضع الواقع بمختلف أبعاده في قالب من السخرية. ولكن على الرغم من الفعالية التي أثبتها هذا الفن كأداة للإحتجاج السياسي والإجتماعي في لبنان منذ عهد الإنتداب الفرنسي, إلّا أنه يشهد اليوم تراجعًا كبير.
بداية وإنتشار
منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920, رسم الفنان اللبنانيّ رسوم كاريكاتورية تصوّر الحالة العامة والمجتمع السياسي في البلاد. ومع أن الصحف الهزلية كانت تصدُر قبل الحرب العالمية الأولى حتى, إلاّ أن البداية الناضجة لفن الكاريكاتور كانت مع صدور”مجلة الدبور” عام 1923. وكان أول رسام كاريكاتور في لبنان، اللبناني من أصل تركي، عزت خورشيد. كما برز إسم، ديران عجميان، كواحد من أهم الفنانين الذين عملوا في هذه المجلة.
لم يقتصر الأمر على مجلة “الدبور”، بل لحقتها الكثير من الصحف التي جعلت هذا النوع من الرسم مادة أساسية على صفحاتها الأولى. أهمها جريدة “المعرض” التي صدرت عام 1925 على يد ميشال زكور. كما اشتهر التشكيلي مصطفى فروخ برسومه التي نشرها في مجلة “النديم” سنة 1926.
ومن جهتها أصدرت جريدة الأحرار اليومية لصاحبها جبران تويني عام 1926, ملحقًا أدبيًا نقديًا حمل عنوان “الأحرار المصوّرة”. واعتمد على الفكاهة والرسوم الكاركاتورية لتوجيه رسائل سياسية معيّنة.
ظل الكاريكاتور خلال هذه المرحلة مغرقًا بالمحلية إلى حد كبير. انتقد السلطات المنتدبة وتدخلها بالشؤون اللبنانية الداخلية من خلال مفوضيها الساميين، من جهة، والحُكام والسياسيين اللبنانيين وإهمالهم لواقع الشعب، من جهة أخرى.
ومع الاستقلال عام 1943، بدأ هذا الفن مرحلة جديدة، كان عنوانها مجلة “الصيّاد”. فهذه الصحيفة التي ولدت على يد سعيد فريحة، أدخلت الكاريكاتور السياسي بمعناه الحقيقي إلى الصحافة اللبنانية. وقد عمل فيها أشهر رسامو الكاريكاتور اللبنانيون مثل ملحم عماد، بيار صادق، محمود كحيل، جان مشعلاني، ديران عجميان.
وإذ بقيت منشورات “الصياد” في تلك السنوات مسرح الكاريكاتير، برز في الصحافة اللبنانية جيل من الرسامين الذين تركوا أرشيفًا تاريخيًا ضخمًا لحقبات مختلفة.
للإطلاع على أرشيف محمود كحيل إضعط هنا
تحديات وعراقيل
إن قصة فن الكاريكاتور في لبنان أصبحت تشارف على الإنتهاء اليوم. فقد تراجعت الأعمدة الصحافية المخصصة للرسوم الكاركاتورية بشكل كبير.
الأمر هنا يرتبط بالعديد من العراقيل والعقبات التي استطاعت أن تفرض نفسها على الفنانين والصحف، فأصبحت هذه الأخيرة تنشر الرسوم الكاريكاتورية بصورة غير منتظمة وفي أمكان غير جاذبة للقارىء أحيانًا. كذلك أصبح ملفتاً أن عدد من الصحف اللبنانية مثل جريدة “الأخبار”، على سبيل المثال لا الحصر، باتت تنشر رسوم كاريكاتورية تحاكي الحدث من دون أن تكون ترجمة له، فتبدو كأنها صورة مساندة للنص.
في هذا السياق اعتبر رسام الكاريكاتور اللبناني، حسن بليبل، أن هذا الفن أصبح اليوم يعاني من فراغ كبير جراء رحيل العديد من أعلامه خلال فترة قصيرة مثل محمود كحيل، بيار صادق، ستافرو جبرا وملحم عماد وغيرهم، دون أن يظهر في المقابل جيل جديد يهتم بهذا النوع من الإبداع. “إن هذه المهنة غير منتجة ومن البديهي أن يميل الشباب إلى مجالات أكثر مردودًا” يقول بلييل.
على المقلب الآخر، يرتبط تراجع الكاريكاتور بتراجع الصحافة الورقية بشكل عام، فمع دخولها أزمات متلاحقة ومصيرية جعلت هذا الفن الهجين، الذي يجمع بين الصحافة والفن التشكيلي، يتقلص ويتجه نحو الزوال.
وفي حديث للمراقب رأى رسام الكاريكاتور في جريدة النهار، آرمان حمصي، أن الإهتمام بالرسوم الكاريكاتورية أو عدمه هو قرار من إدارة الصحيفة، وأن هذا الأمر يرتبط في الكثير من الأحيان بحجم التمويل.
من جهتها تحرص جريدة النهار على نشر الكاريكاتور بشكل منتظم على صفحاتها الورقية, كما تنشره رقميًا عبر موقعها الإلكتروني.
ويُعتبر غياب الاهتمام الرسمي بفن الكاريكاتور من الأمور التي اسهمت بتراجعه، فلم نشهد منذ فترة طويلة معرضاً واحداً للرسوم الكاريكاتورية. “كانت مرحلة بيار صادق مميزة لجهة الجو الإعلامي وحجم الاهتمام الرسمي بفن الكاريكاتور أما اليوم فالأمر أصبح مختلف”، يقول بليبل.
يضاف إلى كل ذلك, عامل الإنقسام الذي يعيشه لبنان، والذي يحول دون تواصل رسامي الكاريكاتور مع بعضهم وقيامهم بنشطات عامة تعزز حضور هذا الفن في المشهد الإعلامي والثقافي. وعن مستقبل الكاريكاتور في لبنان، يقول بليبل: “هذا الفن بشكله التقليدي سيكون مستقبلًا في المتاحف وهنا أقصد المعنى المجازي والمعنى الحرفي للكلمة، أي أنه من الممكن أن يصبح تركيز الرسام على إنتاج لوحات كاريكاتيرية متقنة تعبّر عن مواضيع غير عابرة وإنسانية كمشاكل العولمة والتمييز الجندري والاستغلال الرأسمالي…”.
الكاريكاتور في العالم الإفتراضي
لقد تأثر فن الكاريكاتور اليوم بشكل كبير بظهور وسائل التواصل الإجتماعي, التي أحدثت تغيرات كبرى في عادات القارئ وتفاعله مع الإعلام والمحتوى الفني. فأصبحنا أمام أشكال تعبيرية ساخرة حديثة مثل الميمز والإنفوغراف التي لا تشبه تمامًا الكاريكاتور بشكله التقليدي، لكنها أشكال ذكيّة ومعبّرة.
والجدير بالذكر أن هذه الأشكال الساخرة الجديدة لا يحتاج إنتاجها إلى الكثير من الخبرة والمهارات, خاصة في ظل طفرة البرامج والتطبيقات الحديثة التي تسمح بذلك. مما يضع رسام الكاريكاتور التقليدي أمام تحدٍ ويجبره على تغيير أدواته لإنتاج مادة تتناسب مع طبيعة المنصات الإلكترونية التي تفرض التفاعل السريع مع الاحداث المستجدة، على عكس ما كان عليه الحال في عصر الصحف, إذ كان رسام الكاريكاتور كما الصحافي يحضّر مادته لتنشر في اليوم التالي.
في إطار آخر اعتبر رسام الكاريكاتور أرمان حمصي ، أنّ الحاجة لهذا الفن أصبحت اليوم أقوى لأننا على حد تعبيره في عصر السرعة والجمهور أصبح يفضل الصورة على النص. وأضاف حمصي “مادة فن الكاريكاتور هي الخبر، والأخبار لن تنقطع وهي بحاجة دائمًا لمن يكتبها ويرسمها بشكل لاذع”.
اذاً ماذا عن رسامو الكاريكاتور في لبنان اليوم؟ يقول الفنان عبد الحليم حمود “هنالك الكثير منهم أصبحوا يدمجون بين أدوات الرسم التقليدية مثل أقلام الرصاص، الحبر والفحم والتطبيقات والبرامج الرقمية “.
رسوم كاريكاتورية تثير الجدل
في الغالب يخضع الكاريكاتور للقوانين العامة التي تنظّم مهنة الإعلام، لكنه يحظى أحيانًا بالمزيد من الحرية فلا يمكن مقاضاة رسام كاريكاتور لأنه صغّر رأس سياسي معين أو كبّر أنف آخر. وفي لبنان تحديدًا تتمتع الصحافة بشكل عام بنوع من الحرية وإن كانت أحيانًا حرية نسبية. لذلك لم نشهد كثيرًا محاكمات لفنانين بسبب رسوم كاريكاتورية معينة دون أن يخلو الأمر من بعض الحالات. فمثلًا تعرض الفنان عبد الحليم حمود للماقضاة، على خلفية نشره في جريدة اللواء رسم كاريكاتوري اتهم ضمنيًا سمير جعجع بتفجير كنيسة سيدة النجاة وذلك قبل أن تصدر الجهات المختصة حكمها. وأظهر هذا الرسم جعجع جالساً في الكنيسة يتضرّع قائلاً “Mia Culpa” وهي عبارة باللغة الإيطالية تعني “خطيئتي عظيمة”.
تعبّر الصحف في لبنان عن الإنقسامات الحادة في المجتمع، وفن الكاريكاتور ليس بمنأى عن هذا الأمر فلم نرى مثلًا رسم كاريكاتوري في جريدة ما يعارض رؤيتها السياسية. وأحيانًا قد تعبّر هذه الصحف عن موقف معين من خلال الكاريكاتور بطريقة لاذعة مما يتسبب بموجة واسعة من الغضب لدى فئة معينة من الجمهور.
مثال على ذلك الرسم الذي نشرته جريدة الجمهورية عام 2020 في ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية، والذي شبّه الكوفية الفلسطينية بوباء كورونا وكأن الجريدة تحمّل الفلسطينيين المسؤولية وراء إندلاع هذه الحرب. مما سبب موجة غضب واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي.
مرة أخرى تعرضت الجريدة نفسها لإنتقادات واسعة جراء نشرها كاريكاتور للرسام طوني غانم، يشبّه الأستاذ في لبنان بال “الحمار”، وذلك في إطار السخرية من من الأجور المتدنية التي يتقضاها هؤلاء اليوم.
ردًا على هذا الرسم أصدرت “الهيئة الإدارية لرابطة معلمي التعليم الأساسي في لبنان” بيانًا إستنكاريًا، بينما دعا وزير التربية والتعليم العالي عباس الحلبي، الصحيفة للإعتذار.
للإطلاع على مواضيع أخرى: إضغط هنا